فصل: تزويق المحراب ووضع مصحفٍ فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مُحَاذاة

التّعريف

1 - المحاذاة في اللغة‏:‏ المقابلة‏,‏ يقال‏:‏ حاذيته محاذاةً من باب قاتل‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ كون الشّيئين في مكانين بحيث لا يختلفان في الجهات‏.‏

قال البركتيّ‏:‏ والمعتبر في مسألة المحاذاة السّاق والكعب‏.‏

ما يتعلّق بالمحاذاة من أحكامٍ

للمحاذاة أحكام وردت في عدّة أبوابٍ من كتب الفقه نجملها فيما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ المحاذاة في الصّلاة

أ - محاذاة القبلة‏:‏

2 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح الفريضة على ظهر الكعبة وأمّا النّافلة فتصح فوقها عند الحنابلة إذا كان أمامه شاخص‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ تجوز صلاة النّفل فوق الكعبة وأمّا السنن وركعتا الفجر فلا تجوز صلاتها فوق ظهر الكعبة على الرّاجح‏,‏ لكنّها إن صلّيت على ظهر الكعبة لا تعاد بخلاف الفرض فإنّه يعاد‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ المعتبر في القبلة العرصة لا البناء بمعنى أنّه ليس المراد بالقبلة الكعبة الّتي هي البناء المرتفع‏,‏ ولذا لو نقل البناء إلى موضعٍ آخر وصلّى إليه لم يجز بل تجب الصّلاة إلى أرضها‏.‏

وقالوا‏:‏ تصح الصّلاة مع الكراهة فوق الكعبة ولو بلا سترةٍ‏,‏ وصرّحوا بأنّه لو صلّى على سطح الكعبة جاز إلى أيّ جهةٍ توجّه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من صلّى على سطح الكعبة المشرّفة نظر‏:‏ إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصحّ صلاته بالاتّفاق‏,‏ لعدم استقبال شيءٍ منها‏,‏ وهكذا لو انهدمت والعياذ باللّه فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصحّ صلاته‏,‏ ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صحّ بلا خلافٍ‏.‏

أمّا إذا وقف في وسط السّطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص لم تصحّ صلاته على الصّحيح المنصوص‏.‏

ومن صلّى على سطح الكعبة المشرّفة مستقبلاً من بنائها قدر ثلثي ذراعٍ صحّت صلاته وإن خرج بعضه‏,‏ عن محاذاة الشّاخص‏,‏ وكذا إذا استقبل شاخصاً متّصلاً بالكعبة وإن لم يكن منها كشجرة نابتةٍ وعصاً مسمّرةٍ وإن لم يكن قدر قامته طولاً وعرضاً لأنّه متوجّه إلى جزء من الكعبة‏,‏ أو إلى ما هو كالجزء منها‏,‏ حتّى ولو خرج بعضه عن محاذاة الشّاخص‏,‏ لأنّه مواجه ببعضه جزءاً من الكعبة وبباقيه هواء الكعبة‏,‏ بخلاف ما إذا كان الشّاخص أقلّ من ثلثي ذراعٍ فلا تصح الصّلاة إليه‏,‏ لأنّه كسترة المصلّى فاعتبر فيه قدرها الّذي هو مثل مؤخرة الرّحل‏.‏

قال الشّربيني الخطيب‏:‏ وظاهر كلامهم أنّه لو استقبل الشّاخص المذكور في حال قيامه دون بقيّة صلاته كأن استقبل خشبةً عرضها ثلثا ذراعٍ معترضةً في باب الكعبة تحاذي صدره في حال قيامه دون بقيّة صلاته أنّها تصح ثمّ قال‏:‏ بل الّذي ينبغي أنّها لا تصح في هذه الحالة إلا في الصّلاة على الجنازة‏,‏ بخلاف غيرها لأنّه في حال سجوده غير مستقبلٍ لشيء منها ولو وقف خارج العرصة ولو على جبلٍ أجزأه ولو بغير شاخصٍ لأنّه يعد محاذياً إليها بخلاف المصلّى فيها‏,‏ ولو خرج عن محاذاة الكعبة ببعض بدنه بأن وقف بطرفها وخرج عنه ببعضه بطلت صلاته‏,‏ وكذا لو امتدّ صف طويل بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة بطلت صلاته‏,‏ لأنّه ليس مستقبلاً لها ولا شكّ أنّهم إذا بعدوا عنها حاذوها وصحّت صلاتهم‏,‏ وإن طال صفهم‏,‏ لأنّ صغير الحجم كلّما زاد بعده زادت محاذاته كغرض الرماة‏.‏

ولو أزيل الشّاخص الّذي كان يحاذيه في أثناء صلاته لم يضرّ ‏;‏ لأنّه يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء‏.‏

ب - المحاذاة في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام‏:‏

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحب أو يسن للمصلّي عند افتتاح صلاته رفع يديه عند تكبيرة الإحرام لحديث ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة»‏.‏

وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك‏,‏ لكنّ الفقهاء اختلفوا في كيفيّة الرّفع‏,‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة ف 57 وما بعدها‏)‏‏.‏

ج - الصّلاة في محاذاة النّجاسة‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في صحّة صلاة من صلّى وفي محاذاته نجاسة‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ لا يضر في صحّة الصّلاة نجس يحاذي صدر المصلّي في الركوع والسجود وغيرهما على الصّحيح‏,‏ لعدم ملاقاة النّجاسة لبدنه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّ ذلك يضر في صحّة الصّلاة لأنّه منسوب إليه لكونه مكان صلاته‏,‏ فتعيّن طهارته كالّذي يلاقيه‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏نجاسة‏)‏‏.‏

د - محاذاة المأموم إمامه في الصّلاة‏:‏

5 - نصّ الشّافعيّة على أنّه لو وقف المأموم في علوٍ في غير مسجدٍ كصفّة مرتفعةٍ وسط دارٍ مثلاً‏,‏ وإمامه في سفلٍ كصحن تلك الدّار أو عكسه شرط مع وجوب اتّصال صفٍّ من أحدهما بالآخر‏:‏ محاذاة بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام بأن يحاذي رأس الأسفل قدم الأعلى مع اعتدال قامة الأسفل حتّى لو كان قصيراً لكنّه لو كان معتدلها لحصلت المحاذاة صحّ الاقتداء‏.‏

وكذا لو كان قاعداً ولو قام لحاذى كفى أمّا إذا كانا في المسجد فيصح الاقتداء مطلقاً‏.‏

إلا أنّ المالكيّة قالوا‏:‏ يجوز عدم إلصاق من على يمين الإمام أو يساره بمن حذوه أي خلف ظهر الإمام والمراد بالجواز عندهم خلاف الأولى لأنّه تقطيع للصّفّ ووصله مستحب‏.‏

ونصّ الحنفيّة في مسألةٍ أخرى أنّه إذا جاء المأموم ولم يجد في الصّفّ فرجةً انتظر حتّى يجيء آخر فيقفان خلفه‏,‏ وإن لم يجئ حتّى ركع الإمام يختار أعلم النّاس بهذه المسألة فيجذبه ويقفان خلفه ولو لم يجد عالماً يقف الصّف بحذاء الإمام للضّرورة‏.‏

هـ - صلاة الرّجل في محاذاة امرأةٍ‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة لا تفسد بمحاذاة المصلّي امرأةً، سواء كانت في صلاةٍ أو لم تكن في صلاةٍ، وسواء كان بينهما حائل أو ليس بينهما كما لا تفسد لمحاذاة غير المرأة‏.‏

إلا أنّه يكره للإنسان أن يصلّي وبين يديه ما يشغله سواء كان رجلاً أو امرأةً أو غيرهما‏,‏ ومن أجل ذلك استحب للمصلّي أن يجعل في محاذاته ساتراً يحول بينه وبين المارّة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ صلاة الرّجل تفسد إذا حاذته امرأة في صلاته‏.‏

وقالوا‏:‏ لو قامت امرأة وسط الصّفّ تفسد صلاة واحدٍ عن يمينها وصلاة واحدٍ عن يسارها وصلاة واحدٍ خلفها بحذائها‏.‏

وشروط المحاذاة المفسدة عند الحنفيّة تسعة‏:‏

أ - كون المرأة مشتهاةً ولو كانت محرماً للرّجل أو زوجةً له‏,‏ أو كانت ماضياً كعجوز شوهاء‏.‏

ب - كون المحاذاة بالسّاق والكعب في الأصحّ، وفي الدرّ‏:‏ المعتبر المحاذاة بعضو واحدٍ‏.‏ ج - كون المحاذاة في أداء ركنٍ عند محمّدٍ وهو ما اختاره ابن الهمام في الفتح وجزم به الحلبي أو قدّره عند أبي يوسف‏.‏

وفي الخانيّة‏:‏ إنّ قليل المحاذاة وكثيرها مفسد ونسب إلى أبي يوسف‏.‏

د - كون المحاذاة في صلاةٍ مطلقةٍ ولو بالإيماء فلا تبطل صلاة الجنازة إذ لا سجود لها فهي ليست بصلاة حقيقيّةٍ وإنّما هي دعاء للميّت‏.‏

هـ - كون المحاذاة في صلاةٍ مشتركةٍ من حيث التّحريمة وذلك باقتداء المصلّي والمرأة بإمام أو اقتدائها به‏.‏

و - كون المحاذاة في مكانٍ متّحدٍ ولو حكماً، فلو اختلف المكان بأن كانت المرأة على مكانٍ عالٍ بحيث لا يحاذي شيء منه شيئاً منها لا تفسد الصّلاة‏.‏

ز - كون المحاذاة بلا حائلٍ قدر ذراعٍ في غلظ أصبعٍ أو فرجة تسع رجلاً‏.‏

ح - عدم إشارة المصلّي إليها لتتأخّر عنه فإن لم تتأخّر بإشاراته فسدت صلاتها لا صلاته ولا يكلّف بالتّقدم عنها لكراهته‏.‏

ط - وتاسع شروط المحاذاة المفسدة‏:‏ أن يكون الإمام قد نوى إمامتها فإن لم ينوها لا تكون في الصّلاة فانتفت المحاذاة‏.‏

ثانياً‏:‏ المحاذاة في الحجّ

7 - قال جمهور الفقهاء‏:‏ يجب على الطّائف أن يجعل البيت عن يساره وأن يبدأ بالحجر الأسود محاذياً له كلّه أو بعضه في مروره عليه ابتداءً بجميع بدنه ويكتفي بمحاذاة جزءٍ من الحجر الأسود بجميع بدنه كما اكتفى بمحاذاة جميع بدنه بجزء من الكعبة في الصّلاة‏.‏ وصفة المحاذاة‏:‏ أن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر من جهة الركن اليمانيّ بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ومنكبه الأيمن عند طرفه ثمّ ينوي الطّواف ويمر مستقبلاً إلى جهة يمينه حتّى يجاوز الحجر قال الشّربيني الخطيب‏:‏ والمحاذاة الواجبة تتعلّق بالركن الّذي فيه الحجر الأسود لا بالحجر نفسه حتّى لو فرض - والعياذ باللّه - أنّه نحّى من مكانه وجبت محاذاة الركن‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ ينبغي أن يبدأ بالطّواف من جانب الحجر الّذي يلي الركن اليمانيّ فيكون ماراً على جميع الحجر بجميع بدنه فيخرج من خلاف من يشترط المرور كذلك عليه وشرحه أن يقف مستقبلاً على جانب الحجر‏,‏ بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ثمّ يمشي كذلك مستقبلاً حتّى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت وهذا في الافتتاح خاصّةً ولو أخذ عن يساره فهو جائز مع الإساءة‏.‏

مُحَارِب

انظر‏:‏ حرابة‏.‏

مَحَارِم

انظر‏:‏ مَحْرَم‏.‏

مُحاسَبة

التّعريف

1 - المحاسبة في اللغة‏:‏ مصدر حاسب يقال‏:‏ حاسبه محاسبةً‏,‏ وحساباً‏:‏ ناقشه الحساب وجازاه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المساءلة‏:‏

2 - المساءلة في اللغة مصدر ساءل يقال ساءله أي سأله ويقال تساءلوا‏:‏ سأل بعضهم بعضاً‏.‏

وفي الاصطلاح السؤال استدعاء معرفةٍ أو ما يؤدّي إلى المعرفة‏,‏ واستدعاء مالٍ أو ما يؤدّي إلى المال‏.‏

والمساءلة وسيلة من وسائل المحاسبة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمحاسبة

يختلف حكم المحاسبة باختلاف أنواعها ومن ذلك‏:‏

أوّلاً‏:‏ محاسبة الإنسان نفسه

3 - ينبغي للمسلم أن يحاسب نفسه على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ‏,‏ فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في يوم القيامة حسابه‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏‏.‏

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه‏:‏ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا‏,‏ وكتب إلى أبي موسى الأشعريّ‏:‏ حاسب نفسك في الرّخاء قبل حساب الشّدّة‏.‏

والمحاسبة تارةً تكون قبل العمل وتارةً تكون بعد العمل‏,‏ وتارةً قبله للتّحذير قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ‏}‏‏.‏

ثانياً‏:‏ محاسبة ناظر الوقف

4 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تلزم محاسبة ناظر الوقف في كلّ عامٍ ويكتفي القاضي منه بالإجمال لو كان معروفاً بالأمانة‏,‏ فلو كان متّهماً يجبره القاضي على التّعيين شيئاً فشيئاً‏,‏ ولا يحبسه بل يهدّده‏,‏ ولو اتّهمه يحلّفه‏.‏

وإذا تحاسب ناظر الوقف مع المستحقّين على ما قبضه من غلّة الوقف في سنةٍ معلومةٍ وما صرفه من مصارف الوقف الضّروريّة وما خصّ كلّ واحدٍ منهم من فاضل الغلّة‏,‏ وصدّقه كل منهم على ذلك وكتب كل منهم وصولاً بذلك فيعمل بما ذكر من المحاسبة والصّرف والتّصديق بعد ثبوته شرعاً وليس لهم نقض المحاسبة بدون وجهٍ شرعيٍّ‏.‏

وإذا كان المتولّي على وقف برٍّ يكتب مقبوضه ومصروفه كلّ سنةٍ بمعرفة القاضي بموجب دفترٍ ممضيٍّ بإمضائه فيعمل بدفاتر المحاسبة الممضاة بإمضاء القضاة ولا يكلّف المحاسبة ثانياً‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا مات الواقف وعدم كتاب الوقف‏,‏ قبل قول النّاظر إن كان أميناً‏,‏ وإذا ادّعى النّاظر أنّه صرف الغلّة صدّق إن كان أميناً أيضاً‏,‏ ما لم يكن عليه شهود في أصل الوقف لا يصرف إلا بمعرفتهم‏,‏ وإذا ادّعى أنّه صرف على الوقف مالاً من ماله صدّق من غير يمينٍ‏,‏ إلا أن يكون متّهماً فيحلف‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه إذا ادّعى متولّي الوقف صرف الرّيع للمستحقّين فإن كانوا معيّنين فالقول قولهم‏,‏ ولهم مطالبته بالحساب‏,‏ وإن كانوا غير معيّنين فهل للإمام مطالبته للحساب أو لا ‏؟‏ وجهان‏:‏ حكاهما شريح في أدب القضاء أوجههما الأوّل‏,‏ ويصدّق في قدر ما أنفقه عند الاحتمال‏,‏ فإن اتّهمه القاضي حلّفه‏,‏ والمراد كما قال الأذرعي إنفاقه فيما يرجع إلى العادة وفي معناه الصّرف إلى الفقراء ونحوهم من الجهات العامّة‏,‏ بخلاف إنفاقه على الموقوف عليه المعيّن فلا يصدّق فيه لأنّه لم يأتمنه‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ لولي الأمر أن ينصب ديواناً لحساب أموال الأوقاف عند المصلحة‏,‏ وقالوا‏:‏ إنّ النّاظر على الوقف إمّا أن يكون متبرّعاً أو غير متبرّعٍ‏,‏ فإذا كان النّاظر متبرّعاً في نظره على الوقف قبل قوله في الدّفع إلى المستحقّين ولا يكلّف بإثبات ذلك ببيّنة‏,‏ أمّا إذا كان غير متبرّعٍ فلا يقبل قوله في الدّفع إلى المستحقّين إلا ببيّنة تثبت ذلك‏.‏

ثالثاً‏:‏ محاسبة الإمام للجباة

5 - يجب على الإمام محاسبة الجباة تأسّياً برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ لما روى البخاري‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استعمل رجلاً من الأسد على صدقات بني سليمٍ يدعى ابن اللُّتبيّة فلمّا جاء حاسبه»‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏جباية ف 22‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ محاسبة العمّال

6 - يجب على عمّال الخراج رفع الحساب إلى كاتب الدّيوان وعليه محاسبتهم على صحّة ما رفعوه‏,‏ أمّا عمّال العشر فلا يلزمهم على مذهب الشّافعيّ رفع الحساب ولا يجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم عليه لأنّ العشر عندهم صدقة لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة‏,‏ ولو تفرّد أهلها بمصرفها أجزأت‏,‏ ويلزمهم على مذهب أبي حنيفة رفع الحساب ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم عليه لأنّ مصرف الخراج والعشر عنده مشترك‏,‏ وإذا حوسب من وجبت محاسبته من العمّال نظر فإن لم يقع بين العامل وكاتب الدّيوان حلف كان كاتب الدّيوان مصدّقاً في بقايا الحساب‏,‏ فإن استراب به ولي الأمر كلّفه إحضار شواهده فإن زالت الرّيبة عنه سقطت اليمين فيه‏,‏ وإن لم تزل الرّيبة وأراد ولي الأمر الإحلاف على ذلك أحلف العامل دون كاتب الدّيوان‏,‏ لأنّ المطالبة متوجّهة على العامل دون الكاتب‏,‏ وإن اختلفا في الحساب نظر فإن كان اختلافهما في دخلٍ فالقول فيه قول العامل لأنّه منكر‏,‏ وإن كان اختلافهما في خراجٍ فالقول فيه قول الكاتب لأنّه منكر‏.‏

وإن كان اختلافهما في مساحةٍ يمكن إعادتها اعتبرت بعد الاختلاف وعمل فيها على ما يخرج بصحيح الاعتبار‏.‏

خامساً‏:‏ محاسبة الأمناء

7 - قال ابن أبي الدّم‏:‏ على القاضي أن ينظر في أمر الأمناء ويحاسبهم على ما هم مباشروه‏.‏

وقال السّمنانيّ‏:‏ إذا حوسب الأمناء على ما في أيديهم من أموال اليتامى فمن كان القاضي أقامه قبل قوله فيما يقبل فيه قول الوصيّ‏,‏ ومن لم يقمه القاضي وصياً وإنّما جعله قيّماً في الضّيعة وقابضاً وأن ينفق على اليتيم في كلّ شهرٍ كذا قبل قوله فيما يدّعي من النّفقة على الضّيعة إذا كان مثل ذلك ينفق في المدّة‏,‏ وفيما صار في يده من الثّمار والأثمان‏,‏ وإن اتهم أحد منهم استحلف‏.‏

سادساً‏:‏ محاسبة الوصيّ وإجباره على تقديم بيانٍ

8 - إذا عرف الوصي بالأمانة وكبر الورثة وأخبر وصيهم بأنّه أنفق كلّ ما خلّفه أبوهم عليهم أو على ضياعهم‏,‏ أو قال لهم ما بقي عندي منه إلا هذا القدر‏,‏ ولم يفسّر الحال فأرادوا محاسبته وبيان مصرفه شيئاً فشيئاً ليعلموا أنّه هل أنفق بالمعروف‏,‏ وطلبوا من الحاكم المحاسبة‏,‏ أو طلب الحاكم نفسه ذلك فلهم ذلك‏,‏ وكذا للحاكم لكن لو امتنع عن إعطائه لم يجبر عليه ويكون القول قول الوصيّ فيما أنفق في الصّرف لأنّه إمّا أمينهم أو أمين الحاكم فيعتبر قوله فيما هو أمين فيه‏,‏ وإن لم يعرف بها أجبر على التّفسير‏,‏ ومعنى الجبر أن يحضره يومين أو ثلاثةً ويخوّفه فإن لم يفسّر لم يحبسه بل يكتفي بيمينه‏.‏

سابعاً‏:‏

محاسبة من بيده التّركة من الورثة

9 - إذا كان بعض الورثة يحوزون التّركة أو بعضاً منها جاز لباقي الورثة محاسبتهم على ما في يدهم من التّركة ونمائها ويقسم بينهم بالفريضة الشّرعيّة‏.‏

مُحَاصَّة

التّعريف

1 - المحاصّة في اللغة‏:‏ مصدر‏,‏ يقال‏:‏ حاصّه محاصّةً وحصاصاً‏,‏ قاسمه فأخذ كل واحدٍ منهما حصّته أي نصيبه‏.‏

وتحاصّ الغرماء‏:‏ اقتسموا المال بينهم حصصاً‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

قال القليوبيّ‏:‏ لو ضاق الوقف عن مستحقّيه لم يقدّم بعضهم على بعضٍ بل يقسم بينهم بالمحاصّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القسمة‏:‏

2 - القسمة في اللغة‏:‏ اسم من اقتسام الشّيء‏,‏ يقال‏:‏ اقتسم القوم الشّيء بينهم‏:‏ أخذ كل منهم نصيبه منه‏,‏ وأطلقت على النّصيب‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي جمع نصيبٍ شائعٍ في معيّنٍ‏,‏ أو هي‏:‏ تمييز الحصص بعضها من بعضٍ‏.‏

والعلاقة بين المحاصّة والقسمة أنّ القسمة أعم من المحاصّة لأنّ المحاصّة لا تكون إلا إذا لم يف المال بالحقوق وإن كان الاثنان يشتركان في التّقسيم والإفراز‏.‏

ب - العول‏:‏

3 - العول في اللغة‏:‏ مصدر عال يعول‏,‏ ومن معانيه الارتفاع والزّيادة والميل إلى الجور‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ زيادة السّهام على الفريضة فتعول المسألة إلى سهام الفريضة فيدخل النقصان على أهل الفريضة بقدر حصصهم‏.‏

والعلاقة بين المحاصّة والعول أنّ كلاً من الغريم في القسمة بالمحاصّة‏,‏ والوارث في المسألة العائلة آخذ أقلّ من حقّه‏.‏

ما يتعلّق بالمحاصّة من أحكامٍ

يتعلّق بالمحاصّة أحكام منها‏:‏

محاصّة الغرماء مال المفلس

4 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا حجر على المدين المفلس - وهو الّذي أحاط الدّين بماله - فإنّ الغرماء يتحاصون في ماله يوزّعه القاضي عليهم بنسبة دين كلٍّ منهم‏.‏

قال الدّردير‏:‏ تقسم أموال المفلس بين الغرماء بنسبة الديون بعضها إلى بعضٍ‏,‏ ويأخذ كل غريمٍ من مال المفلس بتلك النّسبة‏,‏ وطريق ذلك بأن تجمع الديون وينسب كل دينٍ إلى المجموع فيأخذ كل غريمٍ من مال المفلس بتلك النّسبة فإذا كان لغريم عشرون‏,‏ ولآخر ثلاثون ولآخر خمسون فالمجموع مائة‏,‏ ونسبة العشرين لها خمس‏,‏ ونسبة الثّلاثين لها خمس وعشر‏,‏ ونسبة الخمسين لها نصف‏,‏ فإذا كان مال المفلس عشرين أخذ صاحب الخمسين نصفها عشرةً‏,‏ ويأخذ صاحب الثّلاثين خمسها وعشرها ستّةً‏,‏ وصاحب العشرين خمسها أربعةً‏.‏

ويحتمل طريقاً آخر‏:‏ وهي نسبة مال المفلس لمجموع الديون فلو كان لشخص مائة ولآخر خمسون‏,‏ ولآخر مائة وخمسون ومال المفلس مائة وخمسون فنسبة مال المفلس لمجموع الديون النّصف فيأخذ كل غريمٍ نصف دينه‏.‏

هذا إذا كانت الديون من جنس مال المحجور عليه‏,‏ كما قال جمهور الفقهاء‏,‏ قالوا‏:‏ فإن كانت الديون مخالفةً لجنس مال المفلس وصفته فإنّ الحاكم يبيع مال المفلس ويقسمه بين الغرماء‏,‏ وإن كان في الغرماء من دينه من غير جنس الأثمان وليس في مال المفلس من جنسه ورضي الغريم أن يأخذ عوضه من الأثمان جاز‏,‏ وإن لم يرض وطلب جنس حقّه اشترى له بحصّته من الثّمن الّتي آلت إليه بالمحاصّة من جنس دينه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا كان على المفلس ديون مختلفة بعضها نقد وبعضها عرض وبعضها طعام بأن كان لأحد الغرماء دنانير ولآخر عروض ولبعضهم طعام فإنّ ما خالف النّقد من مقوّمٍ ومثليٍّ يقوّم يوم الحصاص - أي يوم قسم المال - فإذا كان لغريم مائة دينارٍ على المفلس‏,‏ ولغريم آخر عرض قيمته مائة‏,‏ ولآخر طعام قيمته مائة ومال المفلس مائة فإنّها تقسم بين الغرماء أثلاثاً فيأخذ صاحب النّقد ثلثها‏,‏ ولكلّ من صاحبي العرض والطّعام الثلث فيعطي لصاحب النّقد منابه‏,‏ ويشتري لصاحب العرض عرضاً من صفة عرضه بما نابه‏,‏ وكذلك صاحب الطّعام يشتري له طعاماً من صفة طعامه بالثلث الثّالث‏,‏ ويجوز مع التّراضي أخذ الثّمن إن خلا من مانعٍ‏.‏

هذا تفصيل المالكيّة وقريب منه ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ويجوز عند المالكيّة أن يقوم الغرماء بتفليس المدين الّذي أحاط الدّين بماله وقسم ماله بينهم بالمحاصّة دون أن يحجر عليه من قبل الحاكم‏.‏

ظهور غريمٍ بعد المحاصّة

5 - لو تحاصّ الغرماء دين المفلس ثمّ ظهر غريم آخر فلا تنقض المحاصّة ويرجع الغريم على الغرماء بقسطه عند جمهور الفقهاء وهذا في الجملة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إفلاس ف 53‏)‏‏.‏

محاصّة أصحاب الديون المؤجّلة

6 - الدّين المؤجّل يحل بتفليس الحاكم عند المالكيّة وفي قولٍ للشّافعيّة وروايةٍ عن أحمد‏,‏ وعلى ذلك فإنّ أصحاب الديون المؤجّلة يشاركون أصحاب الديون الحالّة في المحاصّة‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إفلاس ف 24‏)‏‏.‏

وإذا وجد أحد الغرماء عين ماله الّتي باعها للمفلس جاز له أن يأخذها وجاز له أن يحاصص الغرماء بثمن العين‏.‏

وهذا عند جمهور الفقهاء‏,‏ لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحق به من غيره»‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ من أفلس وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه‏,‏ صورته‏:‏ رجل اشترى من رجلٍ شيئاً وقبضه فلم يؤدّ ثمنه حتّى أفلس‏,‏ وليس له غير هذا الشّيء فادّعى البائع بأنّه أحق من سائر الغرماء‏,‏ وادّعى الغرماء التّسوية في ثمنه فإنّه يباع ويقسم الثّمن بينهم بالحصص إن كانت الديون كلها حالّةً‏,‏ وإن كان بعضها مؤجّلاً وبعضها حالاً يقسم الثّمن بين الغرماء الّذين حلّت ديونهم‏,‏ ثمّ إذا حلّ الأجل شاركهم أصحاب الديون المؤجّلة فيما قبضوا بالحصص‏,‏ وأمّا إذا لم يقبض المبيع ثمّ أفلس فصاحب المتاع أولى بثمنه من سائر الغرماء‏.‏

ولرجوع الغريم في عين ماله شروط لا بدّ من تحققها وهي اثنا عشر شرطاً فإن تخلّف شرط منها فلا حقّ له في عين ماله وإنّما يحاصص الغرماء‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏إفلاس ف 28 - 39‏)‏

محاصّة الورثة تركة مورّثهم

7 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا كانت سهام أصحاب الفروض المقدّرة شرعاً تزيد على أصل التّركة المقدّر بالواحد الصّحيح فمعنى ذلك أنّ التّركة لا تفي أصحاب الفروض‏,‏ فإذا ماتت امرأة عن زوجٍ وأمٍّ وأختٍ شقيقةٍ فإنّ للزّوج النّصف فرضاً وللأمّ الثلث فرضاً وللأخت الشّقيقة النّصف فرضاً‏,‏ ففي هذه الحالة قد زادت الفروض عن أصل التّركة - أي الواحد الصّحيح - وهنا قد تساوى الورثة في سبب الاستحقاق فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حين أمر بإلحاق الفرائض بأهلها لم يخصّ بعضهم دون بعضٍ‏,‏ وذلك يوجب المساواة في الميراث فيأخذ كل واحدٍ منهم جميع حقّه إن اتّسع المحل‏,‏ فإن ضاق المحل تحاصوا - كالغرماء - في التّركة ولا يصح إسقاط حقّ واحدٍ من الورثة لأنّه استحقّ نصيبه بنصّ ثابتٍ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏عول ف 3‏,‏ وإرث ف 56 وما بعدها‏)‏‏.‏

محاصّة الغرماء تركة الميّت

8 - قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لو قسم مال التّركة فظهر غريم يجب إدخاله في القسمة شارك بالحصّة ولم تنقض القسمة‏,‏ لأنّ المقصود يحصل بذلك‏,‏ وقيل تنقض القسمة كما لو اقتسمت الورثة ثمّ ظهر وارث آخر فإنّ القسمة تنقض على الأصحّ‏,‏ قال الرّملي‏:‏ وفرّق الأوّل بأنّ حقّ الوارث في عين المال بخلاف حقّ الغريم فإنّه في قيمته وهو يحصل بالمشاركة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا اجتمعت الديون فالغرماء يقسمون التّركة على قدر ديونهم بالحصص‏,‏ ولو توي شيء من التّركة قبل القسمة اقتسموا الباقي بينهم بالحصص ويجعل التّاوي كأنّه لم يكن أصلاً‏,‏ لأنّ حقّ كلّ واحدٍ منهم تعلّق بكلّ جزءٍ من التّركة فكان الباقي بينهم على قدر ديونهم‏.‏

ولو وقعت القسمة ثمّ ظهر في التّركة دين محيط ولم توفّ الورثة من مالهم ولم يبرئ الغرماء ردّت القسمة‏,‏ لأنّ الدّين يمنع وقوع الملك للوارث‏.‏

وكذا إذا كان الدّين غير محيطٍ بالتّركة إلا إذا بقي من التّركة ما يفي من الديون وراء ما قسم‏,‏ لأنّه لا حاجة إلى نقض القسمة في إيفاء حقّهم‏,‏ ولو أبرأه الغرماء بعد القسمة أو أدّاه الورثة من مالهم جازت القسمة‏,‏ أي تبيّن جوازها سواء كان الدّين محيطاً أو غير محيطٍ، لأنّ المانع قد زال بخلاف ما إذا ظهر له وارث أو الموصى له بالثلث أو الربع بعد القسمة وقالت‏:‏ الورثة نحن نقضي حقّهما‏,‏ فإنّ القسمة تنقض إن لم يرض الوارث أو الموصى له‏,‏ لأنّ حقّهما في عين التّركة فلا ينتقل إلى مالٍ آخر إلا برضاهما‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا قسم مال الميّت بين الغرماء بالحصص ثمّ ظهر غريم آخر‏,‏ فإنّه يرجع على الغرماء الّذين اقتسموا المال‏,‏ قال مالك في رجلٍ مات وترك عليه ديناً فقسم ماله بين الغرماء ثمّ قدم قوم فأقاموا البيّنة على دينٍ لهم على هذا الميّت وقد أعدم بعض الغرماء الأوّلين الّذين أخذوا دينهم قال مالك‏:‏ يكون لهؤلاء الّذين قدموا فأحيوا على هذا الميّت ديناً أن يتّبعوا كلّ واحدٍ من الغرماء بما يصير عليه من دينهم إذا فضّ دينهم على جميع الغرماء الّذين قبضوا دينهم ويكون ذلك على المحاصّة في مال الميّت‏,‏ وليس لهؤلاء الّذين أحيوا على هذا الميّت ديناً أن يأخذوا كلّ ما وجدوا في يد هذا الغريم من مال الميّت الّذي لم يتلف ما اقتضى من دينه‏,‏ ولكن يأخذون من هذا مقدار ما يصير عليه من ذلك ويتّبعون بقيّة الغرماء بقدر ما يصير لهم على كلّ رجلٍ منهم ممّا اقتضى من حقّه‏,‏ وكذلك أبداً إنّما ينظر إلى مال الميّت الّذي أخذه الغرماء وينظر إلى دين الغرماء الأوّلين ودين هؤلاء الّذين أحيوا دينهم على هذا الميّت فيقسم بينهم مال الميّت بالحصص‏,‏ فما صار لهؤلاء الّذين أحيوا على الميّت الدّين كان لهم أن يتّبعوا أولئك الغرماء الّذين قبضوا دينهم‏,‏ قبل أن يعلموا بهؤلاء‏,‏ ولا يتّبعون كلّ أحدٍ منهم إلا بما أخذ من الفضل على حقّه في المحاصّة‏,‏ ويتّبعون العديم والمليء بما يصير عليهم من الفضل الّذي أخذوا حين وقعت المحاصّة بينهم وبين هؤلاء الّذين أحيوا دينهم‏.‏

ورجوع الغريم الطّارئُ على الغرماء الّذين اقتسموا المال إنّما هو إذا لم يكن الميّت مشتهراً بالدّين ولم يعلم الوارث أو الوصي ببعض الغرماء‏,‏ فإذا كان الميّت مشتهراً بالدّين أو علم الوارث أو الوصي ببعض الغرماء فتعدّى الوارث أو الوصي وأقبض التّركة لبعض الغرماء‏,‏ فإنّ الطّارئ من الغرماء يرجع على الوارث أو على الوصيّ فيأخذ منه جميع حقّه لتعدّيه بالقسم ثمّ يرجع الوارث أو الوصي على الغرماء الّذين قبضوا أوّلاً بقدر ما أخذ هذا الطّارئُ منه‏.‏

9 - واختلف الفقهاء في حلول الدّين المؤجّل بالموت أو عدم حلوله‏:‏

فقال بعضهم‏:‏ يحل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يحل‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏أجل ف 95‏,‏ وتركة ف 24‏)‏‏.‏

10 - واختلف الفقهاء فيما إذا وجد بعض الغرماء عين ماله في التّركة كمن باع شيئاً ولم يقبض ثمنه ثمّ مات المشتري وكانت الديون تحيط بالتّركة‏,‏ فهل لهذا الغريم أخذ عين ماله أم يكون أسوة الغرماء ويتحاصون جميعاً ‏؟‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الغريم الّذي وجد عين ماله في التّركة لا يكون أحقّ بها بل يكون أسوة الغرماء فيتحاصص معهم بالثّمن الّذي له‏,‏ لأنّ ذمّة الميّت قد خربت بالموت‏.‏

وقد قال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «أيما رجلٍ باع متاعاً فأفلس الّذي ابتاعه ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً فوجد متاعه بعينه فهو أحق به‏,‏ وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء»‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن كانت التّركة لا تفي بالدّين فالغريم بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثّمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله‏,‏ لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قال في رجلٍ أفلس‏:‏ هذا الّذي قضى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «أيما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه»‏,‏ فإن كانت التّركة تفي بالدّين فوجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ له أن يرجع في عين ماله لحديث أبي هريرة‏,‏ والثّاني‏:‏ لا يجوز له أن يرجع في عين ماله‏,‏ وهو المذهب لأنّ المال يفي بالدّين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحيّ المليء‏,‏ وإن خلّف وفاءً فهو أسوة الغرماء‏.‏

المحاصّة في الوصيّة

11 - من أوصى بوصايا تزيد على ثلث ماله ولم يجز الورثة تلك الزّيادة‏,‏ وكان الثلث يضيق بالوصايا فإنّ الموصى لهم يتحاصون في مقدار ثلث التّركة بنسبة ما لكلّ منهم‏,‏ فيدخل النّقص على كلٍّ منهم بقدر وصيّته‏,‏ فمن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالسّدس ولم تجز الورثة فالثلث بينهما أثلاثاً فيقتسمانه على قدر حقّيهما كما في أصحاب الديون الّذين يتحاصون مال المفلس‏,‏ وهذا أصل متّفق عليه بين المذاهب‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

مُحاطّة

انظر‏:‏ وضيعة‏.‏

مُحَاقَلَة

انظر‏:‏ بيع المحاقلة‏.‏

مَحَبّة

التّعريف

1 - المحبّة في اللغة‏:‏ الميل إلى الشّيء السّارّ‏.‏

قال الرّاغب الأصفهاني‏:‏ المحبّة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً‏,‏ وهي على ثلاثة أوجهٍ‏:‏

محبّة للّذّة كمحبّة الرّجل للمرأة‏,‏ ومحبّة للنّفع كمحبّة شيءٍ ينتفع به‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏‏,‏ ومحبّة للفضل كمحبّة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المودّة‏:‏

2 - المودّة في اللغة‏:‏ محبّة الشّيء وتمنّي كونه‏,‏ ويستعمل في كلّ واحدٍ من المعنيين على أنّ التّمنّي يتضمّن معنى الودّ‏,‏ لأنّ التّمنّي هو تشهّي حصول ما توده ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏‏.‏

ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغويّ‏.‏

والفرق بين المحبّة والمودّة‏,‏ أنّ الحبّ يكون فيما يوجبه ميل الطّباع والحكمة جميعاً‏,‏ والود من جهة ميل الطّباع فقط‏.‏

وعلى هذا فالمحبّة أعم من المودّة‏.‏

ب - العشق‏:‏

3 - العشق في اللغة‏:‏ الإغرام بالنّساء والإفراط في المحبّة‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏,‏ والصّلة بين المحبّة والعشق أنّ المحبّة أعم من العشق‏.‏

ج - الإرادة‏:‏

4 - الإرادة في الأصل قوّة مركّبة من شهوةٍ وحاجةٍ وأملٍ‏,‏ وجعل اسماً لنزوع النّفس إلى الشّيء مع الحكم فيه بأنّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل‏,‏ ثمّ يستعمل مرّةً في المبدأ وهو نزوع النّفس إلى الشّيء‏,‏ وتارةً في المنتهى وهو الحكم فيه بأنّه ينبغي أن يفعل‏,‏ أو لا يفعل‏.‏ وقد تذكر الإرادة ويراد بها القصد‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَََلا فَسَاداً‏}‏ أي لا يقصدونه ولا يطلبونه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المحبّة والإرادة أنّ المحبّة أعم من الإرادة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمحبّة

أ - محبّة اللّه ومحبّة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏

5 - أجمعت الأمّة على أنّ حبّ اللّه سبحانه وتعالى وحبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرض على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ وأنّ هذه المحبّة من شروط الإيمان‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏.‏

ولقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «والّذي نفسه بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده»‏.‏

ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك‏:‏ «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والنّاس أجمعين»‏.‏

كما أنّ محبّة اللّه ورسوله منجاة من النّار وموجبة للجنّة لحديث الأعرابيّ الّذي سأل الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «متى السّاعة ‏؟‏ فقال له الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ ما أعددت لها ‏؟‏ قال‏:‏ حب اللّه ورسوله» وفي روايةٍ‏:‏ «ما أعددت لها من كثير صلاةٍ ولا صومٍ ولا صدقةٍ ولكنّي أحب اللّه ورسوله، قال‏:‏ أنت مع من أحببت»‏.‏

ب - محبّة العلماء والصّالحين وعموم المؤمنين‏:‏

6 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من أفضل الأعمال الّتي تقرّب إلى اللّه حب العلماء والصّالحين وأهل العدل والخير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

ولحديث‏:‏ قيل للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «الرّجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم ‏؟‏ قال‏:‏ المرء مع من أحبّ»‏.‏

ولحديث‏:‏ «ثلاث من كنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون اللّه ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا للّه»‏.‏

كما يجب على المؤمن أن يبغض أهل الجور والخيانة‏,‏ لأنّ هذا من محبّة اللّه‏,‏ فإنّ على المحبّ أن يحبّ ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه‏,‏ لحديث‏:‏ «وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا للّه»‏.‏

ج - علامة محبّة اللّه لعبده‏:‏

7 - قال العلماء إنّ من علامات محبّة اللّه لعبده أن يضع له القبول في قلوب عباده‏,‏ وأن ينعم عليه بالمغفرة‏,‏ وأن يقبل توبته‏,‏ وأن يتولاه بالنّصر والتّأييد والتّوفيق لما يحبه ويرضاه‏,‏ وأن يحفظ جوارحه وأعضاءه حتّى يقلع عن الشّهوات ويستغرق في الطّاعات بجعله له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه‏,‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً‏}‏‏,‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏.‏

الآية وللحديث القدسيّ‏:‏ «وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ ممّا افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه‏,‏ فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به‏,‏ ويده الّتي يبطش بها‏,‏ ورجله الّتي يمشي بها‏,‏ وإن سألني أعطيته‏,‏ ولئن استعاذني لأعيذنه»‏.‏

ولحديث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ «إنّ اللّه إذا أحبّ عبداً نادى جبريل‏:‏ إنّ اللّه قد أحبّ فلاناً فأحبّه‏,‏ فيحبه جبريل ثمّ ينادي جبريل في السّماء‏:‏ إنّ اللّه قد أحبّ فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السّماء‏,‏ ويوضع له القبول في أهل الأرض» وفي روايةٍ‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول‏:‏ إنّي أبغض فلاناً فأبغضه‏,‏ قال‏:‏ فيبغضه جبريل‏,‏ ثمّ ينادي في أهل السّماء‏:‏ إنّ اللّه يبغض فلاناً فأبغضوه‏,‏ قال‏:‏ فيبغضونه ثمّ توضع له البغضاء في الأرض»‏.‏

د - محبّة إحدى الزّوجات أو أحد الأولاد أكثر من غيره‏:‏

8 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإنسان لا يؤاخذ إذا مال قلبه إلى إحدى زوجاته وأحبّها أكثر من غيرها‏,‏ وكذا إذا أحبّ أحد أولاده أكثر من الآخرين‏,‏ لأنّ المحبّة من الأمور القلبيّة الّتي ليس للإنسان فيها خيار ولا قدرة له على التّحكم فيها‏,‏ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم لنسائه فيعدل ويقول‏:‏ اللّهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»‏,‏ قال التّرمذي - في تفسير قوله فيما تملك ولا أملك - يعني به الحبّ والمودّة‏.‏

وقال الصّنعانيّ‏:‏ والحديث يدل على أنّ المحبّة‏,‏ وميل القلب أمر غير مقدورٍ للعبد بل هو من اللّه تعالى لا يملكه العبد‏.‏

وإنّما يحرم عليه أن يفضّل المحبوب على غيره بالعطايا‏,‏ أو بغيرها من الأمور الّتي يملكها الإنسان بغير مسوّغٍ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ‏}‏‏.‏

ولقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «من كان له امرأتان يميل لإحداهما جاء يوم القيامة أحد شقّيه مائل»‏,‏ قال العلماء‏:‏ المراد الميل في القسم والإنفاق لا في المحبّة‏,‏ لما عرفت من أنّها ممّا لا يملكه العبد‏.‏

ولقولـه صلّى اللّه عليه وسلّم في التّسوية بين الأولاد بالعطايا ونحوها لبشير رضي الله عنه‏:‏ «أكلّ ولدك نحلت مثله ‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فأرجعه» وفي روايةٍ‏:‏ «أعطيت سائر ولدك مثل هذا ‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فاتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم» وفي ثالثةٍ‏:‏ «أكلّهم وهبت له مثل هذا ‏؟‏ قال‏:‏ قال‏:‏ فلا تشهدني إذن فإنّي لا أشهد على جورٍ»‏.‏

هـ - محبّة أهل البيت‏:‏

9 - ذهب العلماء إلى أنّ محبّة أهل بيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والولاء لهم مطلوبة من المسلمين‏,‏ وأنّ محبّتهم من محبّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ وأنّ معرفة مقدارهم وتوقيرهم وحرمتهم ورعاية ما يجب من حقوقهم والبرّ لهم والنصرة لهم كذلك من موجبات الجنّة‏.‏

كما أنّ بغضهم أو كرههم معصية تؤدّي بأصحابها إلى النّار‏,‏ والأدلّة على ذلك كثيرة منها‏:‏ قول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل ََلا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إََِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى‏}‏‏,‏ أي‏:‏ لا أسألكم أجراً إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي‏.‏

وروى سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهم قال‏:‏ «لمّا نزلت‏:‏ ‏{‏قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إََِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى‏}‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم ‏؟‏ قال‏:‏ علي وفاطمة وأبناؤهما»‏.‏

وقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «أمّا بعد ألا أيها النّاس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي‏,‏ رسول ربّي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين‏,‏ أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به - قال الرّاوي - فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه‏,‏ ثمّ قال‏:‏ وأهل بيتي أذكّركم اللّه في أهل بيتي‏,‏ أذكّركم اللّه في أهل بيتي‏,‏ أذكّركم اللّه في أهل بيتي»‏.‏

وكان الصّحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان يحبون أهل البيت ويظهرون ولاءهم واحترامهم لهم تقرباً إلى اللّه سبحانه وتعالى ووفاءً للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال‏:‏ أرقبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته‏:‏ قال النّووي‏:‏ أي راعوه واحترموه وأكرموه‏.‏

و - محبّة المهاجرين والأنصار والخلفاء الرّاشدين‏:‏

10 - ذهب العلماء إلى أنّ محبّة المهاجرين وتوقيرهم وبرّهم والولاء لهم ومعرفة حقّهم مطلوبة من المسلمين‏,‏ لما لهم من الفضل السّابق إلى الإيمان والهجرة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

محبّة الخلفاء الرّاشدين رضي الله عنهم‏,‏ مطلوبة كذلك‏,‏ لأنّهم خير النّاس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالمحبّة والموالاة‏,‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنّا نخيّر بين النّاس في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏,‏ فنخيّر أبا بكرٍ ثمّ عمر بن الخطّاب ثمّ عثمان بن عفّان رضي الله عنهم‏.‏

قال ابن عبد البرّ‏:‏ واتّفق أهل السنّة على أنّ علياً رضي الله عنه أفضل النّاس بعد الثّلاثة‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ ومن انتقص أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنّة والسّلف الصّالح‏,‏ وأخاف أن لا يصعد له عمل إلى السّماء حتّى يحبّهم جميعاً ويكون قلبه سليماً‏.‏

أمّا محبّة الأنصار رضي الله عنهم فقد ورد في الحثّ عليها نصوص كثيرة لما لهم في الإسلام من الأيادي الجميلة في نصرة دين اللّه والسّعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمّات دين الإسلام حقّ القيام وحبهم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وحبه صلى الله عليه وسلم إيّاهم‏.‏

ومن هذه النصوص الواردة في حقّ الأنصار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَََلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

وحديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق‏,‏ فمن أحبّهم أحبّه اللّه ومن أبغضهم أبغضه اللّه»‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «آية الإيمان حب الأنصار وآية النّفاق بغض الأنصار»‏.‏

ز - محبّة لقاء اللّه تعالى‏:‏

11 - قال العلماء‏:‏ ينبغي للمسلم أن يحبّ لقاء اللّه تعالى‏.‏

لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه‏,‏ ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه، قالت عائشة رضي الله عنها - أو بعض أزواجه - رضي الله عنهن‏:‏ إنّا لنكره الموت قال‏:‏ ليس ذلك‏,‏ ولكنّ المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان اللّه وكرامته فليس شيء أحب إليه ممّا أمامه فأحبّ لقاء اللّه وأحبّ اللّه لقاءه‏,‏ وإنّ الكافر إذا حضر بشّر بعذاب اللّه وعقوبته فليس شيء أكره إليه ممّا أمامه فكره لقاء اللّه وكره اللّه لقاءه»‏.‏

وقال العلماء‏:‏ إنّ محبّة لقاء اللّه لا تدخل في النّهي عن تمنّي الموت الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به‏,‏ فإن كان لا بدّ متمنّياً فليقل‏:‏ اللّهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي‏,‏ وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي»‏.‏

لأنّ محبّة لقاء اللّه ممكنة مع عدم تمنّي الموت كأن تكون المحبّة حاصلةً لا يفترق حاله فيها بحصول الموت‏,‏ ولا بتأخره‏,‏ وأنّ النّهي محمول على حالة الحياة المستمرّة‏,‏ وأمّا عند الاحتضار والمعاينة فلا تدخل تحت النّهي بل هي مستحبّة‏,‏ ومثله إذا تمنّى الموت لخوف فتنةٍ في الدّين‏,‏ أو لتمنّي الشّهادة في سبيل اللّه أو لغرض أخرويٍّ آخر‏.‏

أ - علامات محبّة العبد للّه تعالى‏:‏

12 - قال العلماء‏:‏ من علامات محبّة العبد لربّه أن يتنعّم بالطّاعة ولا يستثقلها وأن يؤثر ما أحبّه اللّه على ما يحبه في ظاهره وباطنه‏,‏ فيلزم مشاقّ العمل ويجتنب اتّباع الهوى‏,‏ ويعرض عن دعة الكسل ولا يزال مواظباً على طاعة اللّه‏,‏ ومتقرّباً إليه بالنّوافل وطالباً عنده مزايا الدّرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه‏,‏ ولأنّ من أحبّ اللّه لا يعصيه كما قال محمّد بن المبارك‏:‏

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه *** هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعتـه *** إنّ المحبّ لمن يحب مطيع

قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي‏}‏ قالوا‏:‏ نزلت في قومٍ من أهل الكتاب قالوا‏:‏ نحن الّذين نحب ربّنا‏,‏ وروي أنّ المسلمين قالوا‏:‏ يا رسول اللّه واللّه إنّا لنحب ربّنا‏,‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ الآية‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ محبّة العبد للّه ورسوله طاعته لهما واتّباعه أمرهما‏.‏

مَحْبُوس

انظر‏:‏ حبس‏.‏

مُحْتَسِب

انظر‏:‏ حسبة‏.‏

مِحْراب

التّعريف

1 - المحراب في اللغة‏:‏ الغرفة‏,‏ وصدر البيت وأكرم مواضعه‏,‏ ومقام الإمام من المسجد‏,‏ والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن النّاس‏,‏ والأجمة‏,‏ وعنق الدّابّة‏.‏

قال الفيوميّ‏:‏ المحراب صدر المجلس‏,‏ ويقال‏:‏ هو أشرف المجالس‏,‏ وهو حيث يجلس الملوك والسّادات والعظماء ومنه محراب المصلّي‏.‏

وقال ابن الأنباريّ عن أحمد بن عبيدٍ‏:‏ سمّي محراباً لانفراد الإمام إذا قام فيه وبعده عن القوم‏.‏

والمحراب عند الفقهاء هو‏:‏ مقام الإمام في الصّلاة‏,‏ والجهة الّتي يصلّي نحوها المسلمون‏,‏ قال الطّحطاويّ‏,‏ بعد تعريف القبلة تعريفاً شرعياً‏:‏ وتسمى - أي القبلة - أيضاً محراباً‏,‏ لأنّ مقابلها يحارب الشّيطان والنّفس‏,‏ أي بإحضار قلبه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القبلة‏:‏

2 - القبلة في اللغة‏:‏ الجهة‏,‏ يقال‏:‏ ليس لفلان قبلة، أي جهة‏,‏ ويقال‏:‏ أين قبلتك ‏؟‏ أي جهتك‏,‏ والقبلة أيضاً‏:‏ وجهة المسجد وناحية الصّلاة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ قال الشّربيني الخطيب‏:‏ القبلة صارت في الشّرع حقيقة الكعبة لا يفهم منها غيرها‏,‏ سمّيت قبلةً لأنّ المصلّي يقابلها‏.‏

والصّلة بين المحراب والقبلة‏:‏ أنّ المحراب الّذي نصب باجتهاد علماء المسلمين يكون - في الجملة - أمارةً على القبلة‏.‏

ب - المسجد‏:‏

3 - المسجد في اللغة‏:‏ بيت الصّلاة‏,‏ وموضع السجود من بدن الإنسان‏,‏ والجمع مساجد‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ الأرض الّتي جعلها مالكها مسجداً بقوله‏:‏ جعلتها مسجداً وأفرز طريقه وأذّن بالصّلاة فيه‏.‏

والعلاقة بين المحراب والمسجد‏:‏ أنّ المحراب جزء من المسجد‏,‏ ومقام الإمام للصّلاة فيه‏.‏ ج - الطّاق‏:‏

4 - الطّاق في اللغة‏:‏ ما عطف من الأبنية وجعل كالقوس‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ المحراب‏,‏ والظلّة الّتي عند باب المسجد أو حوله‏.‏

والصّلة بين المحراب والطّاق التّرادف على المعنى الاصطلاحيّ الأوّل‏,‏ وأنّ كلاً منهما بناء في المسجد أو في رحبته على المعنى الثّاني‏.‏

حكم اتّخاذ المحراب

5 - اختلف الفقهاء في حكم اتّخاذ المحراب‏:‏

فقال الحنابلة‏:‏ اتّخاذ المحراب مباح‏,‏ نصّ عليه‏,‏ وقيل‏:‏ يستحب‏,‏ أومأ إليه أحمد واختاره الآجري وابن عقيلٍ وابن الجوزيّ وابن تميمٍ‏,‏ ليستدلّ به الجاهل‏,‏ وكان أحمد يكره كلّ محدثٍ‏,‏ واقتصر ابن البنّاء عليه فدلّ على أنّه قال به‏.‏

وقال الزّركشي‏:‏ كره بعض السّلف اتّخاذ المحاريب في المسجد‏.‏

وعبارة الحنفيّة والمالكيّة تدل على إباحته‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إنّ الإمام - الرّاتب - لو ترك المحراب وقام في غيره يكره ولو كان قيامه وسط الصّفّ لأنّه خلاف عمل الأمّة‏.‏

وقال الدسوقيّ‏:‏ المشهور أنّ الإمام يقوم في المحراب حال صلاة الفريضة كيف اتّفق‏.‏

أوّل من اتّخذ المحراب

6 - لم يكن للمسجد النّبويّ الشّريف محراب في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم‏,‏ ولا في عهد الخلفاء بعده‏,‏ وأوّل من اتّخذ المحراب عمر بن عبد العزيز‏,‏ أحدثه وهو عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة المنوّرة عندما أسّس مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا هدمه وزاد فيه‏,‏ وكان هدمه للمسجد سنة إحدى وتسعين للهجرة‏,‏ وقيل سنة ثمانٍ وثمانين وفرغ منه سنة إحدى وتسعين - وهو أشبه - وفيها حجّ الوليد‏.‏

ويعني بمحراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مصلاه وموقفه‏,‏ لأنّ هذا المحراب المعروف لم يكن في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم‏.‏

تزويق المحراب ووضع مصحفٍ فيه

7 - نصّ المالكيّة على أنّه يكره تزويق محراب المسجد بذهب أو غيره‏,‏ وكذلك الكتابة فيه‏,‏ بخلاف تجصيصه فيستحب‏,‏ وتعمد مصحفٍ في المحراب أي جعله فيه عمداً ليصلّي له‏,‏ أي إلى جهة المصحف أو ليصلّي متوجّهاً إليه‏,‏ فإن لم يتعمّد ذلك بأن كان المصحف في الموضع الّذي يعلّق فيه لم تكره الصّلاة لجهته‏.‏

ونقل الزّركشي عن مالكٍ أنّه يكره أن يكتب في قبلة المسجد - أي محرابه - آية من القرآن آو شيءٍ منه‏,‏ وأردف الزّركشي ذلك بقوله‏:‏ وجوّزه بعض العلماء وقال‏:‏ لا بأس به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‏}‏ الآية‏,‏ ولما روي من فعل عثمان رضي الله تعالى عنه ذلك بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم ينكر ذلك‏.‏

قيام الإمام في المحراب

8 - اختلف الفقهاء في حكم قيام الإمام في المحراب أثناء صلاة الجماعة‏:‏

فذهب الشّافعيّة والمالكيّة في المشهور عندهم وبعض الحنفيّة إلى أنّه يجوز للإمام القيام في المحراب حال صلاة الفريضة‏.‏

وذهب الحنابلة وبعض الحنفيّة إلى كراهة قيام الإمام في المحراب حال صلاة الفريضة في الجملة‏.‏

وروي عن بعض فقهاء الحنفيّة أنّه يكره للإمام أن يقوم في غير المحراب إلا لضرورة‏,‏ وروي عن أحمد أنّه يستحب وقوف الإمام في المحراب‏.‏

وللفقهاء في ذلك وغيره تفصيل‏:‏

لخّص ابن عابدين اختلاف فقهاء الحنفيّة بقوله‏:‏ حاصله أنّه صرّح محمّد في الجامع الصّغير بالكراهة ولم يفصّل‏,‏ فاختلف المشايخ في سببها‏:‏ فقيل‏:‏ كونه يصير ممتازاً عنهم في المكان‏,‏ لأنّ المحراب في معنى بيتٍ آخر‏,‏ وذلك صنيع أهل الكتاب‏,‏ واقتصر عليه في الهداية‏,‏ واختاره السّرخسي وقال إنّه الأوجه‏.‏

وقيل‏:‏ اشتباه حاله على من في يمينه ويساره‏.‏

فعلى الأوّل يكره مطلقاً‏,‏ وعلى الثّاني لا يكره عند عدم الاشتباه‏.‏

وأيّد الثّاني في الفتح بأنّ امتياز الإمام في المكان مطلوب وتقدمه واجب‏,‏ وغايته اتّفاق الملّتين في ذلك‏,‏ وارتضاه في الحلية وأيّده‏.‏

لكن نازعه في البحر بأنّ مقتضى ظاهر الرّواية الكراهة مطلقاً‏,‏ وبأنّ امتياز الإمام المطلوب حاصل بتقدمه بلا وقوفٍ في مكانٍ آخر‏,‏ ولهذا قال في الولوالجيّة وغيرها‏:‏ إذا لم يضق المسجد بمن خلف الإمام لا ينبغي له ذلك‏,‏ لأنّه يشبه تباين المكانين‏.‏ انتهى‏,‏ يعني وحقيقة اختلاف المكان تمنع الجواز فشبهة الاختلاف توجب الكراهة‏,‏ والمحراب وإن كان في المسجد فصورته وهيئته اقتضت شبهة الاختلاف‏,‏ قال ابن عابدين‏:‏ أي لأنّ المحراب إنّما بني علامةً لمحلّ قيام الإمام ليكون قيامه وسط الصّفّ كما هو السنّة‏,‏ لا لأن يقوم في داخله‏,‏ فهو وإن كان من بقاع المسجد لكن أشبه مكاناً آخر فأورث الكراهة‏,‏ لكن التّشبه إنّما يكره في المذموم وفيما قصد به التّشبه لا مطلقاً‏,‏ ولعلّ هذا من المذموم‏.‏

وفي حاشية البحر للرّمليّ‏:‏ الّذي يظهر من كلامهم أنّها كراهة تنزيهٍ‏.‏

وقال ابن عابدين في معراج الدّراية من باب الإمامة‏:‏ الأصح ما روي عن أبي حنيفة أنّه قال‏:‏ أكره للإمام أن يقوم بين السّاريتين أو زاوية أو ناحية المسجد أو إلى ساريةٍ‏,‏ لأنّه بخلاف عمل الأمّة‏.‏

وفيه أيضاً‏:‏ السنّة أن يقوم الإمام إزاء وسط الصّفّ‏,‏ ألا ترى أنّ المحاريب ما نصبت إلا وسط المساجد وهي قد عيّنت لمقام الإمام‏.‏

وفي التّتارخانيّة‏:‏ ويكره أن يقوم في غير المحراب إلا لضرورة‏,‏ ومقتضاه‏:‏ أنّ الإمام لو ترك المحراب وقام في غيره يكره ولو كان قيامه وسط الصّفّ‏,‏ لأنّه خلاف عمل الأمّة‏,‏ وهو ظاهر في الإمام الرّاتب دون غيره والمنفرد‏.‏

والمشهور عند المالكيّة أنّ الإمام يقف في المحراب حال صلاته الفريضة كيفما اتّفق‏,‏ وقيل‏:‏ يقف خارجه ليراه المأمومون‏,‏ ويسجد فيه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا تكره الصّلاة في المحراب ولم يزل عمل النّاس عليه من غير نكيرٍ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يكره للإمام الصّلاة في المحراب إذا كان يمنع المأموم مشاهدته‏,‏ روي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه وغيره‏,‏ لأنّ الإمام يستتر عن بعض المأمومين‏,‏ أشبه ما لو كان بينه وبينهم حجاب‏,‏ إلا من حاجةٍ كضيق المسجد وكثرة الجمع فلا يكره لدعاء الحاجة إليه‏,‏ ولا يكره سجود الإمام في المحراب إذا كان واقفاً خارجه لأنّه ليس محلّ مشاهدته‏,‏ ويقف الإمام عن يمين المحراب إذا كان المسجد واسعاً نصاً‏,‏ لتميز جانب اليمين‏.‏

ونقل الجراعيّ عن أحمد أنّه يستحب وقوف الإمام في المحراب‏.‏

تنفل الإمام في المحراب

9 - نصّ المالكيّة على أنّه يكره للإمام التّنفل بالمحراب‏,‏ لأنّه لا يستحقه إلا حال كونه إماماً‏,‏ ولأنّه قد يوهم غيره أنّه في صلاةٍ فيقتدي به‏.‏

وقالوا‏:‏ يكره للإمام الجلوس في المحراب بعد الصّلاة على هيئة الصّلاة ويخرج من الكراهة بتغيير الهيئة لحديث سمرة بن جندبٍ‏:‏ «كان النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا صلّى صلاةً أقبل علينا بوجهه» أي التفت إليهم يميناً أو شمالاً ولم يستدبر القبلة لكراهة ذلك‏.‏

دلالة المحراب على القبلة

10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المحراب من الأدلّة الّتي تعرف بها القبلة‏,‏ وأنّه يعتمد في الدّلالة عليها‏,‏ ولا يجوز الاجتهاد في القبلة أو تحرّيها مع وجود المحراب المعتمد في الدّلالة عليها وهذا في الجملة‏,‏ ولهم بعد ذلك تفصيل‏:‏

فقال الحنفيّة‏:‏ تعرف القبلة بالدّليل‏,‏ وهو في القرى والأمصار محاريب الصّحابة والتّابعين والمحاريب القديمة‏,‏ وهي لا يجوز تحرّي القبلة معها‏,‏ بل تعتمد هذه المحاريب في الدّلالة على القبلة‏,‏ لئلا يلزم تخطئة السّلف الصّالح وجماهير المسلمين الّذين أقاموا هذه المحاريب‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ المسلم الّذي يريد الصّلاة وهو في غير مكّة ولا ما لحق بها يجتهد في استقبال جهة الكعبة‏,‏ إلا أن يكون بالمدينة المنوّرة بأنوار سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم‏,‏ أو بجامع عمرٍو بمصر العتيقة فلا يجوز له الاجتهاد المؤدّي لمخالفة محرابهما‏,‏ ويجب عليه تقليد محرابهما‏,‏ لأنّ محراب المدينة بالوحي‏,‏ ومحراب جامع عمرٍو بإجماع جماعةٍ من الصّحابة نحو الثّمانين‏,‏ ولا يقلّد المجتهد محراباً منصوباً إلى جهة الكعبة إلا محراباً لمصر - أي بلدٍ عظيمٍ - حضر نصب محرابه إلى جهة الكعبة جمع من العلماء العارفين‏,‏ وذلك كبغداد ومصر والإسكندرية‏,‏ والمحاريب الّتي جهل حال ناصبيها داخلة فيما قبل الاستثناء‏,‏ والمحاريب الّتي قطع العارفون بخطئها لا تجوز الصّلاة إليها لا لمجتهد ولا لغيره‏.‏

وقلّد الجاهل بالأدلّة الّتي تحدّد القبلة محراباً - ولو لغير مصرٍ - لم يتبيّن خطؤه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ المحراب يجب اعتماده ولا يجوز معه الاجتهاد‏,‏ قال النّووي‏:‏ واحتجّ له أصحابنا بأنّ المحاريب لا تنصب إلا بحضرة جماعةٍ من أهل المعرفة بسمت الكواكب والأدلّة فجرى ذلك مجرى الخبر‏,‏ واعلم أنّ المحراب إنّما يعتمد بشرط أن يكون في بلدٍ كبيرٍ‏,‏ أو في قريةٍ صغيرةٍ يكثر المارون بها بحيث لا يقرونه على الخطأ‏,‏ فإن كان في قريةٍ صغيرةٍ لا يكثر المارون بها لم يجز اعتماده‏,‏ قال صاحب التّهذيب‏:‏ لو رأى علامةً في طريقٍ يقل فيه مرور النّاس‏,‏ أو في طريقٍ يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها‏,‏ أو رأى محراباً في قريةٍ لا يدري بناه المسلمون أو المشركون‏,‏ أو كانت قرية صغيرة للمسلمين اتّفقوا على جهةٍ يجوز وقوع الخطأ لأهلها فإنّه يجتهد في كلّ هذه الصور ولا يعتمده‏,‏ وكذا قال صاحب التّتمّة‏:‏ لو كان في صحراء أو قريةٍ صغيرةٍ أو في مسجدٍ في برّيّةٍ لا يكثر به المارّة فالواجب عليه الاجتهاد‏,‏ قال‏:‏ ولو دخل بلداً قد خرب وانجلى أهله فرأى فيه محاريب‏,‏ فإن علم أنّها من بناء المسلمين اعتمدها ولم يجتهد‏,‏ وإن احتمل أنّها من بناء المسلمين واحتمل أنّها من بناء الكفّار لم يعتمدها بل يجتهد‏,‏ ونقل الشّيخ أبو حامدٍ في تعليقه هذا التّفصيل في البلد الخراب عن أصحابنا كلّهم‏.‏

وأضاف النّووي‏:‏ قال أصحابنا إذا صلّى في مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فمحراب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حقّه كالكعبة‏,‏ فمن يعاينه يعتمده‏,‏ ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال‏,‏ وفي معنى محراب المدينة سائر البقاع الّتي صلّى فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب‏,‏ وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين بالشّرط السّابق فلا يجوز الاجتهاد في هذه المواضع في الجهة بلا خلافٍ وأمّا الاجتهاد في التّيامن والتّياسر فإن كان محراب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يجز بحال‏,‏ وإن كان في سائر البلاد ففيه أوجه‏:‏ أصحها يجوز، قال الرّافعي‏:‏ وبه قطع الأكثرون‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يجوز في الكوفة خاصّةً‏.‏

والثّالث‏:‏ لا يجوز فيها ولا في البصرة لكثرة من دخلها من الصّحابة رضي الله عنهم‏.‏

وقال النّووي‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ الأعمى يعتمد المحراب إذا عرفه بالمسّ حيث يعتمده البصير‏,‏ وكذا البصير في الظلمة‏,‏ وفيه وجه‏:‏ أنّ الأعمى إنّما يعتمد محراباً رآه قبل العمى‏,‏ ولو اشتبه على الأعمى مواضع لمسها صبر حتّى يجد من يخبره‏,‏ فإن خاف فوت الوقت صلّى على حسب حاله وتجب الإعادة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لو أمكن من يريد الصّلاة أو التّوجه إلى القبلة معرفة القبلة بالاستدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به إذا علمها للمسلمين‏,‏ عدولاً كانوا أو فسّاقاً‏,‏ لأنّ اتّفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها ولا تجوز مخالفتها‏,‏ قال في المبدع‏:‏ ولا ينحرف لأنّ دوام التّوجه إليه كالقطع‏,‏ وإن وجد محاريب ببلد خرابٍ لا يعلمها للمسلمين لم يلتفت إليها‏,‏ لأنّها لا دلالة فيها لاحتمال كونها لغير المسلمين‏,‏ وإن كان عليها آثار الإسلام‏,‏ لجواز أن يكون الباني مشركاً عملها ليغرّ بها المسلمين‏,‏ قال في الشّرح‏:‏ إلا أن يكون ممّا لا يتطرّق إليه هذا الاحتمال‏,‏ ويحصل له العلم أنّه من محاريب المسلمين فيستقبله‏,‏ وعلم منه أنّه إذا علمها للكفّار لا يجوز له العمل بها‏,‏ لأنّ قولهم لا يرجع إليه فمحاريبهم أولى‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ لا يجوز الاستدلال بمحاريب الكفّار إلا أن يعلم قبلتهم‏,‏ كالنّصارى يعلم أنّ قبلتهم المشرق‏,‏ فإذا رأى محاريبهم في كنائسهم علم أنّها مستقبلة المشرق‏.‏